زاهر هاشم*
ترتبط حياة الإنسان ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بالبيئة الطبيعية التي يعيش فيها، ويعتمد عليها، وقد ساهم التطور الصناعي وثورة المعلومات والاتصالات إلى حد كبير في تدهور البيئة، ونضوب الموارد الطبيعية، وتوسع الفجوة الاقتصادية والتقنية بين البلدان الصناعية والبلدان النامية.
وتعتبر التنمية المستدامة واحدة من أهم التحديات المجتمعية في القرن الحادي والعشرين، وتهدف إلى تطوير المدن والمجتمعات والأعمال التجارية والصناعية لتلبية احتياجات البشرية في الوقت الحاضر، مع المحافظة على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة لتلبية احتياجاتها.
ويتمثل أحد الاتجاهات العالمية التي لها آثار كبيرة على التنمية المستدامة في التطور السريع لتكنولوجيا المعلومات (IT)، حيث أدى ابتكار تقنيات ثورية، وفي مقدمتها شبكة الانترنت، والخدمات المرتبطة بها، لظهور ما يسمى “ثورة المعلومات” أو “الثورة الصناعية الثالثة”.
وعلى الرغم من وجود آثار سلبية لتكنولوجيا المعلومات على التنمية المستدامة، والمتمثلة باستهلاك الطاقة، ونقصان الموارد، والتلوث البيئي والآثار البيئية المباشرة بسبب إنتاج واستخدام البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، إلا أن ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ساهمت بشكل كبير في تعزيز الجهود لتحقيق التنمية المستدامة، من خلال الاستفادة من التطبيقات والبرامج وقواعد البيانات، والشبكات وخدمات التخزين السحابي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء، لتطبيق نماذج تسهّل الانتقال إلى الاستدامة طالما تم تحديد الآثار السلبية المحتملة ومعالجتها بشكل كاف.
التكنولوجيا في خدمة التنمية المستدامة
يوفر الاستخدام المبتكر لتكنولوجيا المعلومات بدائل للسفر ونقل البضائع، وتحولًا رئيسيًا نحو الإنتاج والاستهلاك والتجارة والخدمات الأقل استخدامًا للموارد. هذه التغييرات يمكن أن تقلل إلى حد كبير من التأثير البيئي للأنشطة الصناعية والتجارية، وبالتالي تسهم في التنمية المستدامة.
يمكن أن تساهم تكنولوجيا المعلومات بشكل كبير في تقليل النفايات، حيث يمكن للخدمات الإلكترونية أن تحل مكان المنتجات المادية، التي تتراكم فيما بعد على شكل نفايات يصعب التخلص منها بشكل سريع وفعال، على سبيل المثال يمكن تقليل النفايات الورقية من خلال الاعتماد على الوثائق الإلكترونية، وخدمات البريد والتوقيع الإلكتروني، كما يمكن للتجارة الإلكترونية أن تقلل من الآثار الضارة التي تنتجها المتاجر التقليدية، سواء من حيث استهلاك الطاقة، أو المخلفات الناتجة عن تشغيل هذه المتاجر، وتقدّر دراسة حالة لمتجر أمازون (amazon.com) أن استهلاك طاقة المباني التجارية لكل كتاب يباع، يزيد 16 ضعفًا في المتاجر التقليدية مقارنة بالمتاجر الإلكترونية.
هناك عامل آخر يعمل على تقليل استخدام المباني التجارية، وبالتالي تخفيض النفقات وتقليل استهلاك الطاقة فيها، يتمثل بالعمل عن بعد، وإنجاز المهام والتواصل مع الإدارة من خلال شبكة الانترنت، بالاستفادة من خدمات التواصل عبر الانترنت، واستخدام تطبيقات وخدمات تخزين سحابية، وهو نهج باتت تتبعه شركات تجارية عديدة، نظرًا لأهميته الاقتصادية بالدرجة الأولى، وما يحققه من وفر كبير في تكاليف تجهيز وتأسيس المباني، وتوفير الطاقة لها، إضافة إلى زيادة الإنتاجية التي قد يسببها العمل في مكان أكثر راحة وهدوء بالنسبة للعاملين عن بعد.
كما تساهم مؤتمرات الفيديو وخدمات الاتصال والمؤتمرات الصوتية عبر الإنترنت أيضاً على تقليل نفقات التنقل والسفر لمسافات طويلة، وتخفيض استهلاك الوقود، والنفقات الناتجة عن الخدمات المقدمة في الفنادق وقاعات المؤتمرات، والتي تستهلك الطاقة وتنتج المزيد من النفايات.
أما على صعيد الصناعة التكنولوجية، فقد أدت ثورة المعلومات إلى إنتاج شرائح إلكترونية أصغر حجماً، وهو ما يعبر عنه “قانون مور” الشهير الذي يوضح أن عدد الترانزستورات لكل بوصة مربعة على الدوائر المتكاملة، يتضاعف كل سنتين، مع المحافظة على السعر ثابتًا، ورغم مرور أكثر من نصف قرن على “قانون مور”، إلا أن شركة “إنتل” لا تزال تدعم هذا الاتجاه وتعتقد أنه سيستمر لعقد آخر على الأقل.
يؤدي إنتاج دارات متكاملة متناهية الصغر، إلى إنتاج أجهزة إلكترونية ذات حجم أصغر، أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة الكهربائية، وتستخدم أقل قدر من المواد في عملية التصنيع والتغليف، عدا عن تخفيض تكاليف النقل والشحن، وبالتالي تقليل انتاج النفايات، وتوفير الوقود.
كما ساهم الابتكار في الإلكترونيات متناهية الصغر في إنتاج نماذج أجهزة مصغرة يمكن أن تؤدي مهامًا متعددة كانت تقوم بها مجموعة من الأجهزة الأخرى، على سبيل المثال باتت الهواتف المحمولة تؤدي مهامًا تتجاوز الاتصال الصوتي والرسائل القصيرة، لتصل إلى تصفح الإنترنت، وتسجيل الفيديو بجودة عالية، ومشاهدة البرامج التلفزيونية، وقراءة الصحف والكتب الإلكترونية، وإمكانية دمجها وترابطها عن بعد من خلال انترنت الأشياء، مع أجهزة إلكترونية منزلية وصناعية، وبالتالي تخفيض النفقات، وتقليل النفايات الإلكترونية، والتوقف عن تصنيع مواد وأجهزة زائدة لا حاجة لها.
البيانات من أجل التنمية المستدامة
لتحقيق التقدم في أهداف التنمية المستدامة يحتاج صانعو القرار إلى بيانات وإحصائيات دقيقة ومصنفة وذات صلة، يمكن الحصول عليها واستخدامها بسهولة.
وقد ساهمت الثورة المعلوماتية في دعم وتطوير وسائل جمع وتحليل البيانات والاستفادة منها في رسم سياسات على المدى البعيد لتحقيق الاستدامة البيئية، على سبيل المثال جمع البيانات المتعلقة بتغير المناخ، والبيانات الصحية الخاصة بانتشار الأمراض والفيروسات، وتحليلها ومعالجتها وتخزين النتائج بسرعة وكفاءة، بما يسمح لكافة أفراد المجتمع، والجهات الحكومية والخاصة والأكاديمية بالمساهمة ببياناتهم وخبراتهم وتقنياتهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
يمكن لتقنية المعلومات أن تسهّل من عملية الوصول السريع والسهل والعادل والفعال إلى المعلومات والمعرفة المتراكمة، وفرص التعليم، والمبادرات الاجتماعية، من خلال استخدام شبكة الانترنت، والمعلومات المتوفرة على الفضاء السيبراني المفتوح. تعمل معالجة المعلومات وتخزينها ونقلها ومشاركتها في شكل إلكتروني، دون أي قيود مكانية أو زمنية، على تمكين أفراد المجتمع من الحصول على معلومات فورية وفقًا للاحتياجات المرغوبة.
تمكين وتنمية المجتمع
تقدم الثورة المعلوماتية العديد من الفرص لتحسين الظروف الاجتماعية، من خلال تمكين الوصول إلى عالم واسع من المعرفة بشكل غير مسبوق، لا سيما بالنسبة للفئات الأكثر حرمانًا من سكان العالم.
على سبيل المثال، نمت الفرص التعليمية بشكل كبير بسبب التعليم والتدريب عن بعد عبر الإنترنت، حيث تؤمّن الجامعات الافتراضية التعليم والموارد عبر الإنترنت للطلاب حول العالم، بالاستفادة من خدمات البريد الإلكتروني والمراجع النصية الكاملة عبر الإنترنت، ومشاهدة محاضرات مسجلة على أِشرطة فيديو عبر الانترنت والأقمار الاصطناعية، وكذلك التواصل مع المشرفين والمشاركة في مؤتمرات الفيديو المباشرة.
وإذا ما تم تنفيذه على نطاق أوسع، فإن التعلّم عن بعد لديه القدرة على أن يكون أحد أكبر مساهمات تكنولوجيا المعلومات في التنمية المستدامة.
يمكن أن تقدم تكنولوجيا المعلومات أيضًا مساهمات كبيرة في المبادرات الاجتماعية على المستوى المحلي، وتوفير معلومات حيوية عن قضايا الصحة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتعليم والأحداث المجتمعية والزراعة.
تساهم تقنية المعلومات أيضاً في زيادة الوعي حول القضايا البيئية من خلال مواقع إلكترونية تخاطب كافة شرائح المجتمع باستخدام أساليب شيقة ومبسطة اعتماداً على الرسومات والفيديو.
كما يمكن لتقنيات الاتصال الحديثة أن تساهم في حل مشكلات الاتصال سواء في المدن المكتظة بالسكان، أو المناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وطرح حلول مبتكرة من أجل زيادة تغطية الشبكة في المناطق الريفية والاقل نمواً، وتمكين شريحة أكبر من السكان الاتصال بالإنترنت.
أخيراً، لسوء الحظ، لا تمتلك معظم البلدان النامية أية خطة أو سياسة واضحة بشأن تكنولوجيا المعلومات، وبالتالي، هناك حاجة ملحة لوضع استراتيجيات وسياسات وطنية وإقليمية واضحة وطويلة الأجل تعزز تنمية مجتمع المعلومات في المنطقة وتعزز عملية التنمية المستدامة.
* إعلامي سوري متخصص في الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي.
منشور في عدد نوفمبر 2019 مجلة لغة العصر
كن أول من يعلق على المقالة