زاهر هاشم *
يشهد العالم اليوم ثورة هائلة في تقنية المعلومات والاتصالات، بدأت شرارتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لتبلغ ذروتها منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى الآن.
لقد كان للتطور التقني الكبير في تكنولوجيا المعلومات أثراً كبيراً على كافة مناحي الحياة المعاصرة، توجّه ظهور شبكة الانترنت، والتطور الكبير في تقنيات الاتصال وصولاً إلى الهواتف الذكية وتطبيقاتها، وتطوّر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد نال قطاع التعليم نصيباً كبيراً من هذا التطور المتسارع، ونجح في مواكبته سواء بشكله التقليدي المعروف كالمدارس والمعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث، أو بشكله الجديد المتمثل في التعليم عن بعد والتعليم الافتراضي الإلكتروني، فقد استفادت المدارس والجامعات التقليدية من تكنولوجيا المعلومات في تطوير العملية التعليمية وأساليب وطرق التدريس، بالاعتماد على الوسائط المتعددة، وشبكة الانترنت، والبرامج المكتبية، ووسائل العرض الإلكترونية ضمن الفصول الدراسية، بشكل يعزز المناهج ويساعد في إيصال الأفكار بطريقة تفاعلية.
أما التعليم عن بعد، فقد كان الأكثر مواكبة لتقنية المعلومات والاتصالات، فهذا النوع من التعليم الذي بدأ من البريد العادي (التعلم بالمراسلة)، استفاد فيما بعد من تقنيات الاتصال في كل مرحلة جديدة من مراحل تطورها، بدءاً من الاعتماد على الإذاعة والأشرطة السمعية وقنوات التلفزيون وأشرطة الفيديو، والأقراص المدمجة، وصولاً إلى الاعتماد الكلي على التواصل الإلكتروني من خلال شبكة الانترنت، فيما يعرف باسم التعليم الإلكتروني أو التعليم الافتراضي.
التعليم الإلكتروني: التعريف والميزات
يعتبر التعليم الإلكتروني نمطاً متطوراً من التعليم عن بعد، توظّف فيه وسائل الاتصال الحديثة، ويعتمد بشكل أساسي على خدمات الشبكة العنكبوتية، تستخدمه الجامعات والمراكز التعليمية لتتيح للجميع الاستفادة من برامجها، والحصول على تأهيل علمي ومهني يرفد المجتمع بكوادر جديدة، واختصاصات جديدة.
وتعتبر الجامعات الافتراضية من أكثر صروح التعليم الإلكتروني أهمية، حيث يقصدها أعداد كبيرة من الطلبة الذين لم تتح لهم فرص الدراسة في الجامعات التقليدية، إما بسبب عامل العمر، أو لأسباب تتعلق بالبعد المكاني وتكاليف الدراسة وعدم قدرة الجامعات التقليدية على استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب، أو عدم وجود اختصاصات مناسبة.
ويصف الدكتور منصور العور، رئيس جامعة حمدان بن محمد الذكية في دولة الإمارات العربية المتحدة، في تصريح له لصحيفة “الخليج” التعليم الإلكتروني بأنه “مرحلة متقدمة من مراحل تطور التعليم العالي، وهو مفهوم مختلف تماماً عن مفهوم الجامعات التقليدية فضلاً عن كونه مرحلة أكثر تطوراً من نموذج التعليم عن بعد، إذ إنه يستند إلى فلسفة توفير التعليم للجميع وإتاحة المجال لمواصلة التعلم مدى الحياة وفق أعلى معايير المرونة والكفاءة والمصداقية، ويقوم التعليم الإلكتروني على التعلم عبر كافة الوسائط الإلكترونية المتاحة، ما يوفر المجال للارتقاء بمستوى المعرفة لدى الأفراد”. (1)
فالتعليم الإلكتروني يتجاوز حدود الزمان والمكان، كما أنه يتميز بمرونة كبيرة في الدراسة من حيث إعادة سماع المحاضرات في أي وقت، دون حاجة لتواجد الطالب والمدرس في وقت واحد، إضافة إلى توفير المال سواء من حيث الرسوم الدراسية، أو تكاليف السفر والانتقال، كما يمنح التعليم الإلكتروني الفرصة لتمكين أصحاب الاحتياجات الخاصة والإعاقة من الالتحاق بالصفوف الدراسية ومتابعة تحصيلهم العلمي.
ومن ناحية المناهج الدراسية، فإن للتعليم الإلكتروني سمات مميزة في هذا المجال، فالمناهج الإلكترونية على عكس التقليدية، قابلة للتحديث المباشر ومواكبة تطورات العصر المتسارعة، ومرنة بحيث يمكن تخصيص المواد وتطويعها لتناسب فئات أكثر من تلك التي تغطيها المناهج التقليدية، عدا عن توفير تكاليف الطباعة، والهدر الناتج في ذلك عند الرغبة بتطوير وتعديل المناهج المطبوعة.
كما يختصر التعليم الإلكتروني الكثير من الوقت في العملية التدريسية، كالتسجيل والامتحانات وإصدار النتائج، بعيداً عن روتين العمل الإداري والورقي، من خلال اعتماد الكثير من الجامعات الافتراضية على منصات برمجية تتيح للطالب الولوج إليها باستخدام حساب خاص يتم من خلاله الحصول على المحاضرات والإجابة على الواجبات وإرسال ومناقشة حلقات البحث، وإجراء الاختبارات الإلكترونية، وتقييم الطلاب، وإمكانية التواصل الفوري بين المدرس والطالب باستخدام خدمات الدردشة الكتابية والصوتية والمرئية، ومناقشة الدروس بين الطلبة في منتديات مخصصة، إضافة إلى إمكانية توفير مكتبة إلكترونية تضم الكتب والمراجع والملفات الصوتية ومقاطع الفيديو.
تحديات التعليم الإلكتروني
يواجه التعليم الإلكتروني تحديات كبيرة، مثل أي فكرة جديدة أو مفهوم جديد يقتحم المجتمع، فهذا النمط من التعليم جاء منافساً لإرث سنوات طويلة من العملية التعليمية بشكلها التقليدي في مدارس وصفوف حية يكون فيها المعلم وجهاً لوجه مع طلبته منذ اليوم الأول للدراسة وحتى انتهاء الامتحانات وانتهاء الدراسة.
لعل أبرز هذه التحديات الصورة السلبية التي ينظر إليها البعض تجاه هذا النمط من التعليم، وتجاه خريجيه الذين قد يصنفون على أنهم أقل كفاءة من خريجي الجامعات التقليدية، سواء في الدرجات الأكاديمية أو في سوق العمل، عدا عن صعوبة معادلة الدرجة الأكاديمية والاعتراف بها في كثير من الدول.
فمن ناحية الاعتراف الأكاديمي لاتزال الكثير من الجهات المسئولة في بلداننا العربية ترفض الاعتراف بشهادات التعليم عن بعد أو التعليم الإلكتروني، إما لغياب التشريعات، أو لعدم وجود معايير لتقييم جودة التعليم الإلكتروني من خلال مؤسسات متخصصة، وبالتالي صعوبة الحصول على الاعتراف الدولي.
كما أدى ظهور أكاديميات وهمية تهدف إلى الخداع والاحتيال، عن طريق منح شهادات دراسية عن بعد دون الحاجة إلى متابعة دروس أو تقديم امتحانات، ودون وجود معايير أو حد أدنى للقبول، إلى ترسيخ صورة سلبية عن التعليم الإلكتروني بشكل عام.
وفي دراسة بعنوان “القبول المجتمعي للدرجات العلمية عبر الإنترنت في العالم العربي: شواهد من دولتين” أجراها الباحث علاء صادق من جامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان، بهدف التعرّف على مدى قبول المجتمع للدرجات العلمية الإلكترونية، وكذلك تحديد العوامل المؤثرة على هذا القبول في دولتين عربيتين: مصر وسلطنة عمان، من خلال تصميم واستخدام استبيان وتطبيقه على عينة شملت 479 مشاركاً من الدولتين من عدة قطاعات مختلفة، أوضحت نتائج الدراسة أن الانطباع العام لدى المشاركين يؤكد على أن نظرة المجتمع لمخرجات التعليم عن بعد أقل بكثير من نظيرتها لمخرجات التعليم التقليدي من حيث الجودة والمصداقية، كما أوضح المشاركون أيضاً أن عوامل مثل معدلات وشروط القبول في جامعات التعليم الإلكتروني، وجودة المخرجات، والصرامة الأكاديمية هي من أهم العوامل التي تؤثر على القبول المجتمعي لمخرجات التعليم عن بعد.
بالمقابل فقد أظهرت الدراسة المذكورة أيضاً موافقة نسبة كبيرة من المستطلعة آراؤهم على أن التعليم الإلكتروني يلعب دوراً في حل كثير من المشاكل التعليمية، ويزيد من فرص الوصول للتعليم والتدريب في العالم العربي. (2)
مستقبل واعد
على الرغم من التحديات والمعوقات وحداثة العهد نسبياً بالتعليم الإلكتروني، فإن هذا النمط من التعليم حقق قفزة كبيرة خلال فترة قصيرة، وأتاح الفرص لفئة عريضة من فئات المجتمع لمتابعة تحصيلها العلمي خارج أسوار الجامعات التقليدية، وتوفير التعليم المستمر لكافة الفئات العمرية والتغلب على الصعوبات، وتجاوز عقبات القبول في الجامعات الحكومية، أو التكاليف الباهظة في الجامعات الخاصة، كما أدى التعليم الإلكتروني إلى تزويد فئة كبيرة من المتعلمين بالمعارف والاختصاصات الحديثة التي تخدم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتطوير البحث العلمي، ورفد سوق العمل بكوادر مؤهلة.
إن تطوير التعليم الإلكتروني واعتماده في منطقتنا العربية يتطلب جهوداً كبيرة للتعريف بهذا النمط، والاستفادة من ميزاته المتقدمة في خدمة العملية التعليمية والبحث العلمي وتأهيل المختصين، ومحاربة المؤسسات التعليمية الوهمية وتجار الشهادات الدراسية، ووضع أسس وتشريعات لضبط جودة التعليم الإلكتروني والاعتراف به واعتماده أكاديمياً ومهنياً، لتشجيع الآلاف من الطلبة للالتحاق به والاستفادة منهم في عملية التنمية.
نشر في مجلة “لغة العصر” الصادرة عن مؤسسة الاهرام في مصر
مارس 2019
هوامش:
1- التعليم الإلكتروني يغزو الميدان التربوي ويهدد التقليدي، صحيفة الخليج، 27/12/2011
2- القبول المجتمعي للدرجات العلمية عبر الإنترنت في العالم العربي: شواهد من دولتين – مجلة الدراسات التربوية والنفسية – جامعة السلطان قابوس (الصفحات 572-588) المجلد 7 العدد 4 ، 2013 – رابط على شبكة أكاديميا
كن أول من يعلق على المقالة