الأخ العزيز:
أرسل لكم كلماتي هذه عبر أثير الشوق والحنان لتصل إليكم وأنتم في أتم الصحة وموفور العافية،
كلماتي هذه أسطرها بمداد من الشوق، وأعطرها بعبق من الذكريات التي لاتنسى، آملاً أن تصلكم وأنتم تكتسون ثوب العافية..
العبارات السابقة ليست من رسائل متبادلة بين شعراء، وليست من مناهج الأدب العربي في مرحلة التعليم الثانوي، إنها نماذج حقيقية لعبارات كنا نتبادلها بين الأهل الاصدقاء.
بداية لست من كارهي التقنيات الحديثة ولا من تيار الحنين إلى الماضي “النوستالجيا”، على العكس من ذلك من دعاة التطور ومواكبة تقنيات العصر والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في كل شاردة وواردة في حياتنا.
لكن ما دعاني لكتابة هذه السطور هي عودة الذاكرة بي إلى نحو ربع قرن للوراء وتحديداً إلى عام 1991 عندما كنت في السادسة عشرة من عمري تقريباً.
وسائل التواصل في عصرنا ذلك الوقت كانت الهاتف الأرضي، الذي لم يكن متوافراً في كل البيوت، وكان تركيبه يحتاج لاشتراك قبل عشرة سنوات على الاقل، ولم تكن تقنية الهاتف الآلي متوفرة إلا في المحافظات والمدن الكبيرة، أما المدن الصغيرة والقرى فكانت الهواتف يدوية أي يتم طلب الرقم بواسطة عامل المقسم “السنترال” الذي يتولى عملية التوصيل مع الطرف الآخر.
ورغم أن هذا الأمر قد يكون غريباً على الجيل الجديد الذي ولد في التسعينيات من القرن الفائت وحتى الألفية الجديدة، لكن هذا ما كان يحدث بالضبط، وكان التواصل الدولي يعني الانتظار لعدة ساعات للعثور على لحظة الحظ التي يكون فيها الخط الدولي غير مشغول، عدا عن تكاليف الاتصال الكبيرة.
أما وسيلة التواصل الأخرى فكانت البريد العادي، الذي كان نافذة جيلنا للتواصل مع العالم الخارجي سواء ضمن أنحاء البلد الواحد، أو خارج حدود البلاد.
رسائلنا البريدية كانت تتسم بنوع من الرسمية في المخاطبة، حتى بين الأخوة في المنزل الواحد.
كان من المتعارف عليه أن تبدأ رسالتك بالسلام والتحية العطرة المرسلة “على أثير الشوق والحنين لتعبر المسافات وتصل إلى قلبك الطيب” وقبل أن تبدأ سردك الذي غالياً ما يكون بلغة عربية رصينة لا بد من أن تختتم الديباجة بعبارة : تحية عربية وبعد!
المراسلة البريدية:
لن أطيل بشرح البريد العادي أو أتطرق لميزاته وعيوبه أو مقارنته مع البريد الإلكتروني، فالمقارنة غير واردة بالطبع في زمن التقنيات الحديثة والتواصل الفوري المباشر، وما بقي للبريد العادي في عصرنا هذا هو فقط إمكانية إرسال الوثائق الحية أو الطرود أو الأوراق الرسمية التي لا يمكن قبول نسخها الإلكترونية في بعض الأحيان.
سأتحدث هنا بشكل ذاتي عن هواية رافقتني لعدة سنوات قبل أن أنقطع عنها بدايةً بسبب انتقالي للدراسة والعمل في العاصمة، وقبل أن أنقطع عنها نهائياً بعد انتشار تقنيات التواصل الحديثة.
كان من المألوف في أيامنا تلك أن تتصفح مجلة عربية لتجد فيها صفحة لهواة المراسلة، أو تستمع إلى برنامج إذاعي وفيه فقرة عن هواة المراسلة، حيث يذكر “الهواة” اسمهم وعمرهم وعنوانهم مع صورتهم الشخصية، فكنت إذا أجد نفسي مهتماً بمراسلة هذا الشخص أكتب له رسالة أعرفه بها عن نفسي وعن دراستي واهتماماتي، وأرسلها له لأنتظر الرد، الذي غالياً ما كان يصل بعد أسبوعين على الأقل، وحين تبدأ سلسلة المراسلة مع صديقي “الافتراضي” تكون الرسائل التالية غالباً ما تتحدث في بعض الأمور التي أرغب بمعرفتها عن بلد آخر أو عن حدث مهم يحصل في بلده ولا نعلم عنه الكثير (وسائل التواصل السمعية البصرية في ذلك الوقت كانت التلفزيون والراديو الحكومي وبعض الصحف والمجلات الدولية التي تصل متأخرة أسابيعاً عن موعد إصدارها).
حدثني صديق من السعودية عن ظروفهم أثناء غزو الكويت من الجيش العراقي، حيث تعرضت السعودية لقصف صاروخي عراقي، وحدثتني صديقة من مصر عن زلزال القاهرة عام 1992، وكيف شعر به السكان، وكيف تطوعت هي للمساعدة مع فرق الإنقاذ والمساعدات التابعة للهلال الأحمر، وكانت البطاقات البريدية وسيلتي أنا وصديقي الجزائري للتعريف بالمناطق الجميلة والعادات والتقاليد في بلادنا.
كان لي شبكة من الاصدقاء في السعودية ومصر والجزائر والمغرب وداخل سوريا، وارتبطت هذه الهواية بهواية رديفة هي جمع الطوابع البريدية 🙂
في النهاية لا زلت أحتفظ حتى الآن بعشرات الرسائل المكتوبة بخط اليد وبأحبار لاتزال عالقة على الورق، ولا تزال هذه الأحبار (مفعمة برائحة الشوق والحنين التي تجتاز المسافات لتصل إلى قلبكم الطيب)
معلومات سريعة:
– بسبب عدم وجود الوجوه التعبيرية أو استخدام مصطلحات مثل (هههههه) للتعبير عن الفرح، فكنا غالباً ما نرفق الرسالة بصورة أزهار وأطفال سعداء، أو نضع رشة من العطر على الرسالة، وأحياناً نرسل بعض الأزهار والنباتات المجففة للتعبير عن المشاعر.
– كان لدينا مجموعات أشبه بمجموعات الفيس بوك أو واتساب حالياً إن صحت المقارنة، وكنا نسميها نوادي مراسلة، نتبادل ونتشارك من خلالها عناوين البريد ومعلومات الاصدقاء الراغبين بالانضمام للنادي.
– كان لدينا أسماء مستعارة، لكنها لم تكن بديلة عن الأسماء الحقيقية بل كانت مرادفة لها، فالرسالة البريدية تحتاج أن تصل على أرض الواقع إلى شخص ذو اسم حقيقي. شخصياً كان اسمي المستعار “عاشق الحرية”.
– إمكانية انتحال الشخصية كانت موجودة لكن على نطاق ضيق، فالرسالة البريدية يصعب إيصالها إلى شخص باسم غير حقيقي أو إلى رجل ينتحل صفة فتاة، إذا كان لديك بعض الشك في الشخص الآخر كان يكفي أن توجه الرسالة بالبريد المضمون الذي يتم استلامه بالبطاقة الشخصية، فإذا عادت لك الرسالة فهذا يعني ان الشخص غير موجود على أرض الواقع.
– أيضاً رسائل التصيد والاحتيال كانت موجودة، شخصياً وصلتني رسالة بريدية تطلب مني إرسال 50 دولار (عام 1992) لتأمين عقد عمل في الكويت، حينها كانت رسائل التصيد تستغل جانب إعادة إعمار الكويت للإيقاع بالضحايا، بالنسبة لي تجاهلت الرسالة لكن أحد أقاربي دفعه الفضول للتجربة ووقع بالفخ .
أتمنى أن تنال هذه الذكريات إعجابكم
زاهر هاشم (عاشق الحرية)
كنت أبحث عن صديق يشاركني هذا الشغف فوصلت الى هذا المقال..أتوق جدا الى معرفة شخص أنتظر خطاباته الورقية ع جمر اللهفة والانتظار..شكرا عليك ولك 😊